الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - التّركة لغةً: اسم مأخوذ من ترك الشّيء يتركه تركاً. يقال: تركت الشّيء تركاً: خلّفته، وتركة الميّت: ما يتركه من الميراث، والجمع تركات. وفي الاصطلاح، اختلف الفقهاء في تعريفها. فذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ التّركة: هي كلّ ما يخلّفه الميّت من الأموال والحقوق الثّابتة مطلقاً. وذهب الحنفيّة إلى أنّ التّركة: هي ما يتركه الميّت من الأموال صافياً عن تعلّق حقّ الغير بعينه. ويتبيّن من خلال التّعريفين أنّ التّركة تشمل الحقوق مطلقاً عند الجمهور، ومنها المنافع. في حين أنّ المنافع لا تدخل في التّركة عند الحنفيّة. فإنّ الحنفيّة يحصرون التّركة في المال أو الحقّ الّذي له صلة بالمال فقط على تفصيل يأتي.
أ - الإرث: 2 - الإرث لغةً: الأصل والأمر القديم توارثه الآخر عن الأوّل. والبقيّة من كلّ شيء. ويطلق الإرث ويراد به: الموروث، ويساويه على هذا الإطلاق في المعنى: التّركة واصطلاحاً: هو حقّ قابل للتّجزّؤ يثبت لمستحقّه بعد موت من كان له ذلك لقرابة بينهما أو نحوها. ما تشمله التّركة وما يورث منها: 3 - ذهب جمهور الفقهاء - المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة - إلى أنّ التّركة تشمل جميع ما تركه المتوفّى من أموال وحقوق. وقد استدلّوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «من مات وترك مالاً فماله لموالي العصبة، ومن ترك كَلّاً أو ضَياعاً فأنا وليّه». فقد جمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم بين المال والحقّ وجعلهما تركةً لورثة الميّت، إلاّ أنّ هذه الحقوق أنواع مختلفة، ولكلّ منها حكمه من ناحية إرثه، أو عدم إرثه وذلك تبعاً لطبيعته وهي: أ - حقوق غير ماليّة: وهي حقوق شخصيّة لا تتعدّى إلى غير صاحبها بحال ما، فهي لا تورث عنه مطلقاً، كحقّ الأمّ في الحضانة، وحقّ الأب في الولاية على المال، وحقّ الوصيّ في الإشراف على مال من تحت وصايته. ب - حقوق ماليّة، ولكنّها تتعلّق بشخص المورّث نفسه، وهذه لا تورث عنه أيضاً، كرجوع الواهب في هبته، وحقّ الانتفاع بشيء معيّن يملكه الغير، كدار يسكنها أو أرض يزرعها، أو سيّارة يركبها، فهذا ونحوه لا يورث عن صاحبه. ومن هذا النّوع الأجل في الدّين، فالدّائن يمنح هذا الأجل للمدين لاعتبارات خاصّة يقدّرها الدّائن وحده، وذلك من الأمور الشّخصيّة الّتي لا تورث عنه. ولذلك يحلّ الدّين بموت المدين، ولا يرث الورثة حقّ الأجل. ج - حقوق ماليّة أخرى تتعلّق بمشيئة المورّث وإرادته، وهي تورث عند الجمهور. وذهب الحنفيّة إلى أنّها لا تورث. وأهمّ هذه الحقوق حقّ الشّفعة، وحقّ الخيارات المعروفة في عقود البيع، كخيار الشّرط، وخيار الرّؤية، وخيار التّعيين. وللتّفصيل تنظر أحكام (الخيار، والشّفعة). د - حقوق ماليّة تتعلّق بمال المورّث، لا بشخصه ولا بإرادته ومشيئته، وهذه حقوق تورث عنه بلا خلاف بين الفقهاء، وذلك كحقّ الرّهن، وحقوق الارتفاق المعروفة، كحقّ المرور وحقّ الشّرب وحقّ المجرى وحقّ التّعلّي. 4 - فيدخل في التّركة ما كان للإنسان حال حياته، وخلّفه بعد مماته، من مال أو حقوق أو اختصاص، كالرّدّ بالعيب والقصاص والولاء وحدّ القذف. وكذا من أوصى له بمنفعة شيء من الأشياء كدار مثلاً، كانت المنفعة له حال حياته ولورثته بعد موته، إلاّ إذا كانت المنفعة مؤقّتةً بمدّة حياته في الوصيّة. وصرّح الشّافعيّة بأنّ من التّركة أيضاً ما دخل في ملكه بعد موته، بسبب كان منه في حياته، كصيد وقع في شبكة نصبها في حياته، فإنّ نصبه للشّبكة للاصطياد هو سبب الملك، وكما لو مات عن خمر فتخلّلت بعد موته. قال القرافيّ: اعلم أنّه يروى عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من مات عن حقّ فلورثته» وهذا اللّفظ ليس على عمومه، بل من الحقوق ما ينقل إلى الوارث، ومنها ما لا ينتقل. فمن حقّ الإنسان أن يلاعن عند سبب اللّعان، وأن يفيء بعد الإيلاء، وأن يعود بعد الظّهار، وأن يختار من نسوة إذا أسلم عليهنّ وهنّ أكثر من أربع، وأن يختار إحدى الأختين إذا أسلم عليهما، وإذا جعل المتبايعان الخيار لأجنبيّ عن العقد فمن حقّه أن يملك إمضاء البيع عليهما أو فسخه، ومن حقّه ما فوّض إليه من الولايات والمناصب كالقصاص والإمامة والخطابة وغيرهما، وكالأمانة والوكالة. فجميع هذه الحقوق لا ينتقل للوارث منها شيء وإن كانت ثابتةً للمورّث. والضّابط: أنّه ينتقل إليه كلّ ما كان متعلّقاً بالمال، أو يدفع ضرراً عن الوارث في عرضه بتخفيف ألمه. أمّا ما كان متعلّقاً بنفس المورّث وعقله وشهواته فلا ينتقل للوارث. والسّرّ في الفرق: أنّ الورثة يرثون المال، فيرثون ما يتعلّق به تبعاً له، ولا يرثون عقله ولا شهوته ولا نفسه، فلا يرثون ما يتعلّق بذلك، وما لا يورث لا يرثون ما يتعلّق به، فاللّعان يرجع إلى أمر يعتقده لا يشاركه فيه غيره غالباً، والاعتقادات ليست من باب المال، والفيئة شهوته، والعود إرادته، واختيار الأختين والنّسوة إربه وميله، وقضاؤه على المتبايعين عقله وفكرته، ورأيه ومناصبه وولاياته وآراؤه واجتهاداته، وأفعاله الدّينيّة فهو دينه، ولا ينتقل شيء من ذلك للوارث، لأنّه لم يرث مستنده وأصله، وانتقل للوارث خيار الشّرط في البياعات، وقاله الشّافعيّ رحمه الله تعالى. ثمّ قال القرافيّ: إنّه لم يخرج عن حقوق الأموال - فيما يورث - إلاّ صورتان فيما علمت: حدّ القذف وقصاص الأطراف والجرح والمنافع في الأعضاء. فإنّ هاتين الصّورتين تنتقلان للوارث، وهما ليستا بمال، لأجل شفاء غليل الوارث بما دخل على عرضه من قذف مورّثه والجناية عليه. وأمّا قصاص النّفس فإنّه لا يورث، فإنّه لم يثبت للمجنيّ عليه قبل موته، وإنّما يثبت للوارث ابتداءً، لأنّ استحقاقه فرع زهوق النّفس، فلا يقع إلاّ للوارث بعد موت الموروث. 5- وعند الحنابلة أنّ ما كان من حقوق المورّث، ويجب له بموته، كالدّية والقصاص في النّفس فللورثة استيفاؤه. وما كان واجباً للمورّث في حياته إن كان قد طالب به، أو هو في يده ثبت للورثة إرثه، وذلك على تفصيل في المذهب. 6- وذهب الحنفيّة إلى أنّ التّركة هي المال فقط، ويدخل فيها الدّية الواجبة بالقتل الخطأ، أو بالصّلح عن عمد، أو بانقلاب القصاص بعفو بعض الأولياء، فتعتبر كسائر أمواله، حتّى تقضى منها ديونه وتخرج وصاياه، ويرث الباقي ورثته. ولا تدخل الحقوق في التّركة، لأنّها ليست ثابتةً بالحديث، وما لم يثبت لا يكون دليلاً. ولأنّ الحقوق ليست أموالاً، ولا يورث منها إلاّ ما كان تابعاً للمال أو في معنى المال، مثل حقوق الارتفاق والتّعلّي وحقّ البقاء في الأرض المحتكرة للبناء والغراس، أمّا غير ذلك من الحقوق فلا يعتبر تركةً، كحقّ الخيار في السّلعة الّتي اشتراها المورّث وكان له فيها حقّ الخيار - كما سبق - وحقّ الانتفاع بما أوصي له به، ومات قبل مضيّ المدّة الّتي حدّدها الموصي. قال ابن رشد: وعمدة المالكيّة والشّافعيّة (والحنابلة أيضاً) أنّ الأصل هو أن تورث الحقوق والأموال، إلاّ ما قام دليل على مفارقة الحقّ في هذا المعنى للمال. وعمدة الحنفيّة أنّ الأصل هو أن يورث المال دون الحقوق، إلاّ ما قام دليله من إلحاق الحقوق بالأموال. فموضع الخلاف: هل الأصل أن تورث الحقوق كالأموال أو لا ؟ وكلّ واحد من الفريقين يشبه من هذا ما لم يسلّم له خصمه منها بما يسلّمه منها له، ويحتجّ على خصمه.
7 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الحقوق المتعلّقة بالتّركة أربعة: وهي تجهيز الميّت للدّفن، وقضاء ديونه إن مات مديناً، وتنفيذ ما يكون أوصى به قبل موته من وصايا، ثمّ حقوق الورثة. وصرّح المالكيّة، وصاحب الدّرّ المختار من الحنفيّة بأنّها خمسة بالاستقراء. قال الدّردير: وغايتها - أي الحقوق المتعلّقة بالتّركة - خمسة: حقّ تعلّق بعين، وحقّ تعلّق بالميّت، وحقّ تعلّق بالذّمّة، وحقّ تعلّق بالغير، وحقّ تعلّق بالوارث. والحصر في هذه استقرائيّ، فإنّ الفقهاء تتبّعوا ذلك فلم يجدوا ما يزيد على هذه الأمور الخمسة، لا عقليّ كما قيل. وقال صاحب الدّرّ المختار: والحقوق هاهنا خمسة بالاستقراء، لأنّ الحقّ إمّا للميّت، أو عليه، أو لا. الأوّل: التّجهيز، والثّاني: إمّا أن يتعلّق بالذّمّة وهو الدّين المطلق أو لا، وهو المتعلّق بالعين، والثّالث: إمّا اختياريّ وهو الوصيّة، أو اضطراريّ وهو الميراث.
للتّركة أحكام خاصّة بيانها فيما يلي: تنتقل ملكيّة التّركة جبراً إلى الورثة، ولهذا الانتقال شروط: الشّرط الأوّل - موت المورّث: 8 - اتّفق الفقهاء على أنّ انتقال التّركة من المورّث إلى الوارث يكون بعد وفاة المورّث حقيقةً أو حكماً أو تقديراً. فالموت الحقيقيّ: هو انعدام الحياة إمّا بالمعاينة، كما إذا شوهد ميّتاً،أو بالبيّنة أو السّماع. والموت الحكميّ: هو أن يكون بحكم القاضي إمّا مع احتمال الحياة أو تيقّنها. مثال الأوّل: الحكم بموت المفقود. ومثال الثّاني: حكم القاضي على المرتدّ باعتباره في حكم الأموات إذا لحق بدار الحرب. وتقسّم التّركة في هاتين الحالتين من وقت صدور الحكم بالموت. والموت التّقديريّ: هو إلحاق الشّخص بالموتى تقديراً، كما في الجنين الّذي انفصل عن أمّه بجناية، بأن يضرب شخص امرأةً حاملاً، فتلقي جنيناً ميّتاً، فتجب الغرّة، وتقدّر بنصف عشر الدّية. وقد اختلف الفقهاء في إرث هذا الجنين: فذهب الجمهور إلى أنّه لا يرث، لأنّه لم تتحقّق حياته، ومن ثمّ فلم تتحقّق أهليّته للتّملّك بالإرث، ولا يورث عنه إلاّ الدّية فقط. وذهب أبو حنيفة إلى أنّه يرث ويورث، لأنّه يقدر أنّه كان حيّاً وقت الجناية، وأنّه مات بسببها. وللتّفصيل انظر (إرث، جنين، جناية، موت). الشّرط الثّاني - حياة الوارث: 9 - تحقّق حياة الوارث بعد موت المورّث، أو إلحاقه بالأحياء تقديراً، فالحياة الحقيقيّة هي المستقرّة الثّابتة للإنسان المشاهدة له بعد موت المورّث. والحياة التّقديريّة هي الثّابتة تقديراً للجنين عند موت المورّث، فإذا انفصل حيّاً حياةً مستقرّةً لوقت يظهر منه وجوده عند الموت - ولو نطفةً - فيقدّر وجوده حيّاً حين موت المورّث بولادته حيّاً. وللتّفصيل انظر مصطلح: (إرث). الشّرط الثّالث - العلم بجهة الميراث: 10 - يشترط العلم بالجهة المقتضية للإرث من زوجيّة أو قرابة أو ولاء، وذلك لأنّ الأحكام تختلف في ذلك، ويجب أيضاً أن تعيّن جهة القرابة، مع العلم بالدّرجة الّتي يجتمع الوارث فيها مع المورّث. وللتّفصيل انظر مصطلح: (إرث).
11 - أسباب انتقال التّركة أربعة، اتّفق الفقهاء على ثلاثة منها وهي: النّكاح والولاء والقرابة. وزاد المالكيّة والشّافعيّة جهة الإسلام وهي: بيت المال، على تفصيل ينظر في موضعه. وكلّ سبب من هذه الأسباب يفيد الإرث على الاستقلال. وللتّفصيل انظر مصطلح: (إرث).
12 - موانع انتقال التّركة عن طريق الإرث ثلاثة: الرّقّ، والقتل، واختلاف الدّين. واختلفوا في ثلاثة: وهي الرّدّة، واختلاف الدّارين، والدّور الحكميّ. وهناك موانع أخرى لبعض الفقهاء، مع خلاف وتفصيل يرجع فيه إلى مصطلح (إرث).
13 - لا يشترط لانتقال التّركة إلى الوارث قبول الوراثة، ولا إلى أن يتروّى قبل أن يقبلها، بل إنّها تئول إليه جبراً بحكم الشّرع من غير قبول منه. وقد تكون التّركة خاليةً من الدّيون، وقد تكون مدينةً. والدّين إمّا أن يكون مستغرقاً أو لا، ولا خلاف بين الفقهاء في أنّ التّركة تنتقل إلى الوارث، إذا لم يتعلّق بها دين من حين وفاة الميّت. واختلفوا في انتقال التّركة الّتي يتعلّق بها الدّين على ثلاثة أقوال: أ - فذهب الشّافعيّة، وهو أشهر الرّوايتين عند الحنابلة إلى: أنّ أموال التّركة تنتقل إلى ملك الورثة بمجرّد موت المورّث، مع تعلّق الدّين بها، سواء أكان الدّين مستغرقاً للتّركة أم غير مستغرق لها. ب - وذهب المالكيّة إلى: أنّ أموال التّركة تبقى على ملك الميّت بعد موته إلى أن يسدّد الدّين، سواء أكان الدّين مستغرقاً لها أم غير مستغرق، لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أو دَينٍ}. ج - وذهب الحنفيّة إلى أنّه يميّز بين ما إذا كانت التّركة مستغرقةً بالدّين، أو كانت غير مستغرقة به. فإن استغرق الدّين أموال التّركة تبقى أموال التّركة على ملك الميّت، ولا تنتقل إلى ملك الورثة. وإن كان الدّين غير مستغرق، فالرّأي الرّاجح أنّ أموال التّركة تنتقل إلى الورثة بمجرّد موت المورّث، مع تعلّق الدّين بهذه الأموال على تفصيل سيأتي. قال السّرخسيّ: الدّين إذا كان محيطاً بالتّركة يمنع ملك الوارث في التّركة، وإن لم يكن محيطاً فكذلك في قول أبي حنيفة الأوّل. وفي قوله الآخر: لا يمنع ملك الوارث بحال، لأنّ الوارث يخلف المورّث في المال، والمال كان مملوكاً للميّت في حال حياته مع اشتغاله بالدّين كالمرهون، فكذلك يكون ملكاً للوارث، قال: وحجّتنا في ذلك قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بها أو دَينٍ}. فقد جعل اللّه تعالى أوان الميراث ما بعد قضاء الدّين، والحكم لا يسبق أوانه فيكون حال الدّين كحال حياة المورّث في المعنى. ثمّ الوارث يخلفه فيما يفضل من حاجته، فأمّا المشغول بحاجته فلا يخلفه وارثه فيه. وإذا كان الدّين محيطاً بتركته فالمال مشغول بحاجته، وقيام الأصل يمنع ظهور حكم الخلف. ولا نقول: يبقى مملوكاً بغير مالك، ولكن تبقى مالكيّة المديون في ماله حكماً لبقاء حاجته. وخلافة الوارث في التّركة ناقصة في حال تعلّق الدّين بها من غير استغراق، وهي صوريّة إذا كانت مستغرقةً بالدّين، وذلك لا يعني أنّه لا قيمة لهذه الخلافة، بل لها شأنها، ويعلم ذلك من أقوال الفقهاء. قال ابن قاضي سماوة من الحنفيّة: للورثة أخذ التّركة لأنفسهم ودفع الدّين والوصيّة من مالهم. ولو كانت التّركة مستغرقةً بدين أو غير مستغرقة، فأدّاه الورثة لاستخلاص التّركة يجبر ربّ الدّين على قبوله، إذ لهم الاستخلاص وإن لم يملكوها، بخلاف الأجنبيّ. ولو كانت التّركة مستغرقةً بالدّين فالخصم في إثبات الدّين إنّما هو وارثه، لأنّه خلفه، فتسمع البيّنة الّتي يتقدّم بها الدّائن عليه.
14 - أ - نماء التّركة أو نتاجها إذا حصل بين الوفاة وأداء الدّين، هل تضمّ إلى التّركة لمصلحة الدّائنين أم هي للورثة ؟ وذلك كأجرة دار للسّكنى، أو أرض زراعيّة استحقّت بعد وفاته، وكدابّة ولدت أو سمنت فزادت قيمتها، وكشجر صار له ثمر. كلّ ذلك نماء أو زيادة في التّركة، وفيه خلاف بين الفقهاء مبنيّ على أنّ التّركة قبل وفاء الدّين المتعلّق بها هل تنتقل إلى الورثة أم لا ؟ فمن قال: تنتقل إلى الورثة قال: إنّ الزّيادة للوارث وليست للدّائن، ومن قال بعدم انتقالها ضمّت الزّيادة إلى التّركة لوفاء الدّين، فإن فضل شيء انتقل إلى الورثة. ب - صيد وقع في شبكة أعدّها المورّث حال حياته، ووقوع الصّيد كان بعد وفاته، فعلى الخلاف السّابق. وللتّفصيل ينظر في مصطلح: (دين، وصيد، وإرث).
يختلف وقت وراثة الوارث لمورّثه بناءً على ما يسبق الوفاة. وهنا يفرّق بين حالات ثلاث: أ - الحالة الأولى: 15 - من مات دون سابق مرض ظاهر، وذلك كأن مات فجأةً بالسّكتة القلبيّة، أو في حادث مثلاً. ففي هذه الحالة يكون وقت خلافة الوارث لمورّثه هو نفس وقت الموت، وبلا خلاف يعتدّ به بين الفقهاء. قال الفناريّ: فعند أبي يوسف ومحمّد يخلف الوارث مورّثه في التّركة بعد موته، وعليه مشايخ بلخ، لأنّه ما دام حيّاً مالك لجميع أمواله، فلو ملكها الوارث في هذه الحالة أدّى إلى أن يصير الشّيء الواحد مملوكاً لشخصين في حالة واحدة، وهذا غير معهود في الشّرع، لكن عند محمّد ملك الوارث يتعقّب الموت، وعند أبي يوسف لا يتعقّب، بل يتحقّق إذا استغنى الميّت عن ماله بتجهيزه وأداء دينه، لأنّ كلّ جزء يجوز أن يكون محتاجاً إليه بتقدير هلاك الباقي. وعن محمّد ينتقل الملك إلى الوارث قبل موته في آخر أجزاء الحياة، وعليه مشايخ العراق، لأنّ الإرث يجري بين الزّوج والزّوجة، والزّوجيّة ترتفع بالموت أو تنتهي على حسب ما اختلفوا، فبأيّ سبب يجري الإرث بينهما. وعند البعض يجري الإرث مع موت المورّث لا قبله ولا بعده - كما ذكره شارح الفرائض العثمانيّة واختاره - لأنّ انتقال الشّيء إلى ملك الوارث مقارن لزوال ملك المورّث عن ذلك الشّيء، فحين يتمّ يحصل الانتقال والإرث. ب - الحالة الثّانية: 16 - هي حالة من مات بعد أن كان مريضاً مرض الموت واتّصلت الوفاة به. وقد عرّفت مجلّة الأحكام العدليّة مرض الموت بأنّه: المرض الّذي يخاف فيه الموت في الأكثر، الّذي يعجز المريض عن رويّة مصالحه الخارجيّة عن داره إن كان من الذّكور، ويعجزه عن رؤية المصالح الدّاخليّة في داره إن كان من الإناث، ويموت على ذلك الحال قبل مرور سنة، كان صاحب فراش أو لم يكن. وإن امتدّ مرضه دائماً على حال، ومضى عليه سنة يكون في حكم الصّحيح، وتكون تصرّفاته كتصرّفات الصّحيح، ما لم يشتدّ مرضه ويتغيّر حاله، ولكن لو اشتدّ مرضه وتغيّر حاله ومات، يعدّ حاله اعتباراً من وقت التّغيّر إلى الوفاة مرض موت. ويلحق بالمريض مرض الموت: الحامل إذا أتمّت ستّة أشهر ودخلت في السّابع، والمحبوس للقتل، وحاضر صفّ القتال وإن لم يصب بجرح كما صرّح بذلك المالكيّة. ونحوه تصريح الحنابلة في الحامل إذا ضربها المخاض. 17 - وذهب الجمهور إلى أنّ وقت انتقال تركة المريض مرض الموت إلى ورثته، يكون عقب الموت بلا تراخ، وهو قول أكثر الحنفيّة أيضاً. وقال بعض متقدّمي الحنفيّة: إنّ انتقال الملكيّة في ثلثي تركة المريض مرض الموت يكون من حين ابتداء مرض الموت، وتفصيل ذلك ودليله ينظر في المطوّلات. قالوا: ولأجل هذا منع المريض مرض الموت من التّصرّف في ثلثي التّركة، وترث زوجته منه لو طلّقها بائناً فيه.
18 - إذا شعر المريض بدنوّ أجله ربّما تنطلق يده في التّبرّعات رجاء استدراك ما فاته في حال صحّته، وقد يؤدّي ذلك إلى تبديد ماله وحرمان الورثة، فشرع الحجر عليه. وقد اتّفق الفقهاء على أنّ المريض مرض الموت محجور عليه بحكم الشّرع لحقّ الورثة، والّذي يحجر فيه على المريض هو تبرّعاته فقط فيما زاد عن ثلث تركته حيث لا دين. وذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ هذا الحجر على المريض مرض الموت هو في التّبرّع، كالهبة والصّدقة والوصيّة والوقف وبيع المحاباة فيما يزيد عن ثلث ماله، أي أنّ حكم تبرّعاته حكم وصيّته: تنفذ من الثّلث، وتكون موقوفةً على إجازة الورثة فيما زاد عن الثّلث، فإن برئ من مرضه صحّ تبرّعه. وقال المالكيّة: لا ينفذ من الثّلث تبرّع المريض، إلاّ إذا كان المال الباقي بعد التّبرّع مأموناً، أي لا يخشى تغيّره، وهو العقار كدار وأرض وشجر، فإن كان غير مأمون فلا ينفذ، وإنّما يوقف ولو بدون الثّلث حتّى يظهر حاله من موت أو حياة، كما يمنع من الزّواج بما زاد على الثّلث. قال الدّسوقيّ: والمريض لا يحجر عليه في تداويه ومؤنته، ولا في المعاوضة الماليّة ولو بكلّ ماله. وأمّا التّبرّعات فيحجر عليه فيها بما زاد عن الثّلث. وللتّفصيل انظر مصطلح: (مرض الموت). ج - الحالة الثّالثة: 19 - وهي حالة التّركة المدينة بدين مستغرق أو غير مستغرق لها، وقد تقدّم الكلام على هذه الحالة في " انتقال التّركة ".
20 - المراد بزوائد التّركة نماء أعيانها بعد وفاة المورّث. وقد فصّل الفقهاء حكم هذه الزّوائد، آخذين بعين الاعتبار ما إذا كانت التّركة خاليةً من الدّيون أو مدينةً بدين مستغرق أو غير مستغرق. فإذا كانت التّركة غير مدينة، فلا خلاف بين الفقهاء في أنّ التّركة بزوائدها للورثة، كلّ حسب حصّته في الميراث. أمّا إذا كانت التّركة مدينةً بدين مستغرق أو غير مستغرق، فقد اختلف الفقهاء في زوائدها هل تبقى على ملك الميّت، ومن ثمّ تصرف للدّائنين ؟ أم تنتقل للورثة ؟ فذهب الحنفيّة - في الدّين المستغرق - والمالكيّة إلى: أنّ نماء أعيان التّركة بزيادتها المتولّدة ملك للميّت، كما أنّ نفقات أعيان التّركة، من حفظ وصيانة ومصروفات حمل ونقل وطعام حيوان تكون في التّركة. وذهب الحنفيّة في الدّين غير المستغرق والشّافعيّة والحنابلة - في أشهر الرّوايتين - إلى أنّ زوائد التّركة الّتي تعلّق بها دين ملك للورثة، وعليهم ما تحتاجه من نفقات.
21 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ الحقوق المتعلّقة بالتّركة ليست على مرتبة واحدة، وأنّ بعضها مقدّم على بعض، فيقدّم من حيث الجملة تجهيز الميّت وتكفينه، ثمّ أداء الدّين، ثمّ تنفيذ وصاياه، والباقي للورثة.
22 - إذا كانت التّركة خاليةً من تعلّق دين بعينها قبل الوفاة، فقد اتّفق الفقهاء على أنّ أوّل الحقوق مرتبةً وأقواها هو: تجهيزه للدّفن والقيام بتكفينه وبما لا بدّ له منه، «لقوله صلى الله عليه وسلم في الّذي وَقَصَته ناقتُه: كَفِّنوه في ثوبين» ولم يسأل هل عليه دين أم لا ؟ لأنّه محتاج إلى ذلك، وإنّما يدفع إلى الوارث ما يستغني عنه المورّث، لأنّه إذا ترك للمفلس الحيّ ثياب تليق به فالميّت أولى أن يستر ويوارى، لأنّ الحيّ يعالج لنفسه، وقد «كفّن النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد مصعباً رضي الله عنه في بردة له، ولم يكن له غيرها، وكفّن حمزة رضي الله عنه أيضاً» ولم يسأل عن دين قد يكون على أحدهما قبل التّكفين. أمّا إذا لم تكن التّركة خاليةً من تعلّق حقّ الغير بأعيانها قبل الوفاة، كأن كان فيها شيء من الأعيان المرهونة، أو شيء اشتراه ولم يقبضه ولم يدفع ثمنه، كان حقّ المرتهن متعلّقاً بعين الشّيء المرهون، وكان حقّ البائع متعلّقاً بالمبيع نفسه الّذي لا يزال تحت يده، ففي هذه الحالة يكون الدّين متقدّماً في الدّفع على تكفين الميّت وتجهيزه عند المالكيّة والشّافعيّة، وهي الرّواية المشهورة عند الحنفيّة. وعند الحنابلة، وغير المشهور عند الحنفيّة: أنّه إذا مات الإنسان بدئ بتكفينه وتجهيزه مقدّماً على غيره، كما تقدّم نفقة المفلس على ديون غرمائه، ثمّ تقضى ديونه بعد تجهيزه ودفنه. والتّفصيل في (جنائز، ودين).
23 - يأتي في المرتبة الثّانية أداء الدّيون المتعلّقة بالتّركة بعد تجهيز الميّت - على التّفصيل السّابق - لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بها أو دينٍ}. ويقدّم الدّين على الوصيّة باتّفاق الفقهاء، لأنّ الدّين واجب من أوّل الأمر، لكنّ الوصيّة تبرّع ابتداءً، والواجب يؤدّى قبل التّبرّع. «وعن الإمام عليّ رضي الله عنه أنّه قال: إنّكم تقرءون الوصيّة قبل الدّين، وقد شهدت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بدأ بالدّين قبل الوصيّة». وهذه الدّيون أو الحقوق أنواع: منها: ما يكون للّه تعالى، كالزّكاة والكفّارات والحجّ الواجب. ومنها: ما يكون للعباد، كدين الصّحّة ودين المرض. وهذه الدّيون بشطريها، إمّا أن تتعلّق بعين التّركة أو بجزء منها. ومنها: ديون مطلقة متعلّقة بالذّمّة وحدها. 24 - وذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والثّوريّ والشّعبيّ والنّخعيّ وسوّار، وهو الرّواية المرجوحة للحنابلة إلى: أنّ الدّيون الّتي على الميّت تحلّ بموته. قال ابن قدامة: لأنّه لا يخلو إمّا أن يبقى الدّين في ذمّة الميّت، أو الورثة، أو يتعلّق بالمال. لا يجوز بقاؤه في ذمّة الميّت لخرابها وتعذّر مطالبته بها، ولا ذمّة الورثة لأنّهم لم يلتزموها، ولا رضي صاحب الدّين بذممهم، وهي مختلفة متباينة، ولا يجوز تعليقه على الأعيان وتأجيله، لأنّه ضرر بالميّت وصاحب الدّين ولا نفع للورثة فيه أمّا الميّت فلأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «نفس المؤمن معلّقة ما كان عليه دين»، وأمّا صاحبه فيتأخّر حقّه، وقد تتلف العين فيسقط حقّه، وأمّا الورثة فإنّهم لا ينتفعون بالأعيان ولا يتصرّفون فيها، وإن حصلت لهم منفعة فلا يسقط حظّ الميّت وصاحب الدّين لمنفعة لهم. والمذهب عند الحنابلة، وهو قول ابن سيرين وعبيد اللّه بن الحسن العنبريّ وأبي عبيد: أنّ الدّيون على الميّت لا تحلّ بموته، إذا وثق الورثة أو غيرهم برهن أو كفيل مليء على أقلّ الأمرين من قيمة التّركة أو الدّين. قال ابن قدامة: لأنّ الموت ما جعل مبطلاً للحقوق، وإنّما هو ميقات للخلافة وعلامة على الوراثة، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «من ترك حقّاً أو مالاً فلورثته»، فعلى هذا يبقى الدّين في ذمّة الميّت كما كان، ويتعلّق بعين ماله كتعلّق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه، فإن أحبّ الورثة أداء الدّين والتزامه للغريم ويتصرّفون في المال لم يكن لهم ذلك إلاّ أن يرضى الغريم، أو يوثّقوا الحقّ بضمين مليء أو رهن يثق به لوفاء حقّه، فأنّهم قد لا يكونون أملياء ولم يرض بهم الغريم، فيؤدّي إلى فوات الحقّ، وذكر القاضي أبو يعلى: أنّ الحقّ ينتقل إلى ذمم الورثة بموت مورّثهم من غير أن يشترط التزامهم له. قال ابن قدامة: ولا ينبغي أن يلزم الإنسان دين لم يلتزمه ولم يتعاط سببه، ولو لزمهم ذلك لموت مورّثهم للزمهم وإن لم يخلّف وفاءً. 25 - وقد اختلف الفقهاء في أيّ الدّينين يؤدّى أوّلاً إذا ضاقت التّركة عنهما. فذهب الحنفيّة إلى: أنّ ديون اللّه تعالى تسقط بالموت إلاّ إذا أوصى بها كما سيأتي. وذهب المالكيّة إلى أنّ حقّ العبد يقدّم على حقّ اللّه تعالى، لأنّ حقوق اللّه تعالى مبنيّة على المسامحة، وحقوق العباد مبنيّة على المشاحّة، أو لاستغناء اللّه وحاجة النّاس. وذهب الشّافعيّة إلى تقديم حقوق اللّه تعالى أو ديونه على حقوق الآدميّ إذا ضاقت التّركة عنهما، واستدلّوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «دين اللّه أحقّ أن يقضى». وقوله: «اقضوا اللّه، فاللّه أحقّ بالوفاء». وأمّا الحنابلة فإنّهم يقدّمون وفاء الدّين المتعلّق بعين التّركة أو ببعضها، كالدّين المرهون به شيء منها، ثمّ بعدها الدّين المطلقة المتعلّقة بذمّة المتوفّى، ولا فرق في التّقديم بين حقّ اللّه أو حقّ العبد. وللتّفصيل انظر مصطلح: (إرث، ودين).
تعلّق دين اللّه سبحانه بالتّركة 26 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ دين اللّه سبحانه وتعالى يجب أداؤه من التّركة، سواء أوصى به أم لا، على خلاف سبق في تقديمه على دين الآدميّ. وذهب الحنفيّة إلى أنّ دين اللّه تعالى لا يجب أداؤه من التّركة إلاّ إذا أوصى به الميّت، فإن أوصى به فيخرج من ثلث التّركة. قال الفناريّ في توجيه ذلك: إنّ أداء دين اللّه عبادة، ومعنى العبادة لا يتحقّق إلاّ بنيّة وفعل ممّن يجب عليه حقيقةً أو حكماً، كما في الإيصاء لتحقّق أدائها مختاراً، فيظهر اختياره الطّاعة من اختياره المعصية الّذي هو المقصود من التّكليف، وفعل الوارث من غير أمر المبتلى بالأمر والنّهي لا يحقّق اختياره، فإذا مات من غير فعل ولا أمر به فقد تحقّق عصيانه، لخروجه من دار التّكليف ولم يمتثل، وذلك تقرير عليه موجب العصيان، فليس فعل الوارث الفعل المأمور به، فلا يسقط به الواجب، كما لو تبرّع به في حال حياته، بخلاف حقوق العباد، فإنّ الواجب فيها وصولها إلى مستحقّيها لا غير، ولهذا لو ظفر به الغريم يأخذه، ويبرأ من عليه بذلك. ثمّ الإيصاء بحقوق اللّه تعالى تبرّع، لأنّ الواجب في ذمّة من عليه الحقّ فعل لا مال، والأفعال تسقط بالموت، ولا يتعلّق استيفاؤها بالتّركة، لأنّ التّركة مال يصلح لاستيفاء المال منها لا لاستيفاء الفعل. ألا يرى أنّه إذا مات وعليه القصاص لا يستوفى من تركته، فصارت الحقوق المذكورة كالسّاقط في حقّ الدّنيا، لأنّها لو لم يوص بها لم يجب على الورثة أداؤها، فكان الإيصاء بأدائها تبرّعاً، فيعتبر كسائر التّبرّعات من الثّلث بخلاف ديون العباد، فإنّها لا تسقط بالموت، لأنّ المقصود ثمّة المال لا الفعل، لحاجة العباد إلى الأموال. وفيه بحث وهو أنّ الإيصاء بأداء حقوق اللّه تعالى واجب كما صرّح به في الهداية، والإيصاء بسائر التّبرّعات ليس بلازم، فلا وجه لقياس الإيصاء بأداء حقوق اللّه على الإيصاء بسائر التّبرّعات، فتأمّل. هذا وقد اختلف الجمهور في بعض التّفصيلات: فذهب المالكيّة إلى أنّه بعد وفاء دين العبد يبدأ بوفاء حقّ اللّه تعالى، فيقدّم هدي التّمتّع إن مات الحاجّ بعد رمي جمرة العقبة، أوصى به أم لا، ثمّ زكاة فطر فرّط فيها، وكفّارات فرّط فيها أيضاً، ككفّارة يمين وصوم وظهار وقتل إذا أشهد في صحّته أنّها بذمّته، كلّ ذلك يخرج من رأس المال، أوصى بإخراجها أم لم يوص، لأنّ المقرّر في مذهب المالكيّة: أنّ حقوق اللّه متى أشهد في صحّته بها خرجت من رأس المال، فإن أوصى بها ولم يشهد فتخرج من الثّلث. ومثل ما تقدّم: زكاة النّقدين الّتي حلّت وأوصى بها، وزكاة ماشية وجبت ولا ساعي لأخذها ولم توجد السّنّ الّتي تجب فيها، فإن وجدت فهو كالدّين المتعلّق بعين، فيجب إخراجه قبل الكفن والتّجهيز. وذهب الشّافعيّة إلى: أنّه بعد تجهيز الميّت وتكفينه تقضى ديونه المتعلّقة بذمّته من رأس المال، سواء أكانت للّه تعالى أم لآدميّ، أوصى بها أم لم يوص، لأنّها حقّ واجب عليه. هذا وإنّ محلّ تأخير الدّين عن مؤن التّجهيز إذا لم يتعلّق بعين التّركة حقّ، فإن تعلّق بعين التّركة حقّ قدّم على التّجهيز، وذلك كالزّكاة الواجبة فيما قبل موته، ولو من غير الجنس، فيقدّم على مؤن التّجهيز، بل على كلّ حقّ تعلّق بها فكانت كالمرهون بها. وذهب الحنابلة إلى: أنّه بعد التّجهيز والتّكفين يوفّى حقّ مرتهن بقدر الرّهن، ثمّ إن فضل للمرتهن شيء من دينه شارك الغرماء. ثمّ بعد ما سبق من تسديد الدّيون المتعلّقة بأعيان التّركة، تسدّد الدّيون غير المتعلّقة بالأعيان، وهي الّتي تثبت في الذّمّة، ويتعلّق حقّ الغرماء بالتّركة كلّها، سواء استغرقها الدّين أم لم يستغرقها، وسواء أكان الدّين للّه تعالى كالزّكاة والكفّارات والحجّ الواجب، أم كان لآدميّ كالقرض والثّمن والأجرة. فإن زادت الدّيون عن التّركة، ولم تف بدين اللّه تعالى ودين الآدميّ، يتحاصّون بنسبة ديونهم كمال المفلس. والتّفصيل في الزّكاة والكفّارات والحجّ وينظر مصطلح: (حجّ، ودين، وإرث).
دين الآدميّ 27 - دين الآدميّ هو الدّين الّذي له مطالب من جهة العباد، فإنّ إخراج هذا الدّين من التّركة والوفاء به واجب شرعاً على الورثة قبل توزيع التّركة بينهم، لقوله تعالى. {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بها أو دَيْنٍ} وعلى ذلك الإجماع، وذلك حتّى تبرأ ذمّته من حقوق النّاس، أو حتّى تبرد جلدته كما جاء في الحديث الشّريف. وللفقهاء تفصيل في نوع تعلّق دين الآدميّ بين كونه متعلّقاً بعين التّركة أو بذمّة المتوفّى، وفي دين الصّحّة والمرض، وفي ضيق التّركة عن تسديد الدّين وغير ذلك ممّا سيأتي.
نوع التّعلّق الدّين الّذي له مطالب من جهة العباد إمّا أن يتعلّق بعين التّركة أو لا. أ - الدّين المتعلّق بعين التّركة: 28 - ذهب جمهور الفقهاء - الحنفيّة في الرّواية المشهورة عندهم، والمالكيّة والشّافعيّة- إلى أنّه يبدأ من الدّيون بما تعلّق بعين التّركة، كالدّين الموثق برهن، ومن ثمّ يجب تقديم هذه الدّيون على تجهيز الميّت وتكفينه، لأنّ المورّث في حال حياته لا يملك التّصرّف في الأعيان الّتي تعلّق بها حقّ الغير، فأولى ألاّ يكون له فيها حقّ بعد وفاته. فإن فضل شيء من التّركة بعد سداد هذا الدّين جهّز منه الميّت، وإن لم يفضل شيء بعد سداد الدّين، كان تجهيز الميّت على من كانت تجب عليه نفقته في حياته. وذهب الحنابلة، والحنفيّة في غير المشهور إلى أنّه إذا مات الإنسان بدئ بتكفينه وتجهيزه مقدّماً على غيره، كما تقدّم نفقة المفلس على ديون غرمائه، ثمّ بعد التّجهيز والتّكفين تقضى ديونه ممّا بقي من ماله. ب - الدّيون المطلقة: 29 - اتّفق الفقهاء على أنّ الدّيون المطلقة، وهي الّتي لا تتعلّق بعين من أعيان التّركة تؤخّر عن تجهيز الميّت وتكفينه، فإن فضل شيء بعد التّجهيز والتّكفين دفع للدّائن واحداً كان أو أكثر بقدر حصصهم. وللتّفصيل ينظر مصطلح: (دين وإرث) ج - دين الصّحّة ودين المرض: 30 - دين الصّحّة: هو ما كان ثابتاً بالبيّنة مطلقاً، أي في حال الصّحّة أو المرض على السّواء. وما كان ثابتاً بالإقرار في حال الصّحّة وكذا الدّين الثّابت بنكول المتوفّى في زمان صحّته. ودين المرض: هو ما كان ثابتاً بإقراره في مرضه، أو ما هو في حكم المرض، كإقرار من خرج للمبارزة، أو خرج للقتل قصاصاً، أو ليرجم. ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وابن أبي ليلى إلى: أنّ دين الصّحّة ودين المرض سواء في الأداء، ولهذا إن لم يكن في التّركة وفاء بهما يكون لكلّ دائن حصّة منهما، بنسبة مقدار دينه، بلا تمييز بين ما كان منها من ديون الصّحّة أو ديون المرض، فهي في مرتبة واحدة، لأنّه إن عرّف سببها للنّاس فهي ديون الصّحّة - ووافقهم على ذلك الحنفيّة - وإن لم يعرّف سببها فيكفي الإقرار في إثباتها، لأنّ الإقرار حجّة، إلاّ إذا قام دليل أو قرينة على كذبه. والإنسان وهو مريض يكون أبعد عن هواه، وأقرب إلى اللّه، وإلى ما يؤمر به من الصّدق في حال الصّحّة، لأنّ المرض مظنّة التّوبة. يصدق فيه الكاذب، ويبرّ فيه الفاجر، وتنتفي تهمة الكذب عن إقراره، فيكون الثّابت بالإقرار كالثّابت بالبيّنة. وذهب الحنفيّة إلى تقديم دين الصّحّة على دين المرض الّذي ثبت بطريق الإقرار، ولم يعلم النّاس به، لأنّ الإقرار في مرض الموت مظنّة التّبرّع أو المحاباة، فيكون في حكم الوصايا الّتي تنفذ من الثّلث، والوصايا مؤخّرة عن الدّيون.
تزاحم الدّيون 31 - إذا كانت التّركة متّسعةً للدّيون كلّها على اختلاف أنواعها، فلا إشكال في ذلك حينئذ، إذ يمكن الوفاء بها جميعاً من التّركة. أمّا إذا ضاقت التّركة ولم تتّسع لجميع الدّيون، فقد اختلف الفقهاء في تقديم بعضها على بعض. وقد تقدّم بيان أقوال الفقهاء في تقديم الدّيون المتعلّقة بعين التّركة على غيرها، وتقديم دين الصّحّة على دين المرض أو عدم تقديمه. وللتّفصيل ينظر مصطلح: (دين، ورهن، وقسمة). 32 - يأتي في المرتبة الثّالثة تنفيذ الوصيّة. وقد اتّفق الفقهاء على أنّ تنفيذ ما يوصي به الميّت يجيء بعد الدّين وقبل أخذ الورثة أنصباءهم من التّركة، لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بها أو دَيْنٍ} ولا يكون تنفيذ ما يوصى به من أصل المال، لأنّ ما تقدّم من التّكفين وقضاء الدّين قد صار مصروفاً في ضروراته الّتي لا بدّ منها، والباقي هو ماله الّذي كان له أن يتصرّف في ثلثه. وأيضاً ربّما استغرق ثلث الأصل جميع الباقي، فيؤدّي إلى حرمان الورثة بسبب الوصيّة، وهذا سواء أكانت الوصيّة مطلقةً أم معيّنةً. وتقديم الوصيّة على الدّين في الآية الكريمة لا يفيد التّقديم فعلاً كما تبيّن من قبل (ف 23) وإنّما يفيد العناية بأمر وصيّة الميّت، وإن كانت تبرّعاً منه، كي لا تشحّ نفوس الورثة بإخراجها من التّركة قبل توزيعها بينهم. ومن هنا تقدّم ذكرها على الدّين تنبيهاً على أنّها مثله في وجوب الأداء أو المسارعة إليه، ولذلك جيء بينهما بأو الّتي هي هنا للتّسوية. وتقديم الوصيّة على حقوق الورثة ليس على إطلاقه، لأنّ تنفيذ الوصيّة مقيّد بحدود الثّلث، فإن كان الموصى به شيئاً معيّناً أخذه، وإن كان بثلث أو ربع مثلاً كان الموصى له شريكاً للورثة في التّركة بنسبة نصيبه الموصى له به، لا مقدّماً عليهم. فإذا نقص المال لحقه النّقص، وهذا بخلاف التّجهيز والدّين، فإنّهما متقدّمان حقّاً على الوصيّة وحقوق الورثة. ولمّا كانت الوصيّة بنسبة شائعة على سبيل المشاركة مع حقوق الورثة - فلو هلك شيء من التّركة قبل القسمة فإنّه يهلك على الموصى له والورثة جميعاً، ولا يعطى الموصى له كلّ الثّلث من الباقي، بل الهالك يهلك على الحقّين، والباقي يبقى على الحقّين، بخلاف الدّين - فإنّه إذا هلك بعض التّركة يستوفى كلّ الدّين من الباقي. ثمّ إنّ طريقة حساب الوصيّة: أن يحسب قدر الوصيّة من جملة التّركة لتظهر سهام الورثة، كما تحسب سهام أصحاب الفرائض أوّلاً ليظهر الفاضل للعصبة. وللفقهاء تفصيل ينظر في (وصيّة، وإرث).
33 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ التّركة تقسم بين الوارثين بعد أداء الحقوق المتعلّقة بها انظر مصطلح: (إرث). إلاّ أنّ الفقهاء اختلفوا فيما إذا قسّمت التّركة بين الورثة قبل أداء الحقوق المتعلّقة بها، هل تنقض هذه القسمة أم تلزم ؟ فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ التّركة المستغرقة بالدّين تبقى على ملك المورّث، أو هي في حكم ملكه، لأنّ الدّين يشغلها جميعاً. أمّا غير المستغرقة فإنّها تنتقل إلى ملك الوارث من حين وفاة المورّث أو ينتقل الجزء الفارغ من الدّين. ومن ثمّ لا يجوز للورثة اقتسام التّركة ما دامت مشغولةً بالدّين، وذلك لأنّ ملكهم لا يظهر إلاّ بعد قضاء الدّين، لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بها أو دَينٍ} فإذا قسموها نقضت قسمتهم حفظاً لحقّ الدّائنين، لأنّهم قسموا ما لا يملكون. قال الكاسانيّ: الّذي يوجب نقض القسمة بعد وجودها أنواع: منها ظهور دين على الميّت، إذا طلب الغرماء ديونهم ولا مال للميّت سواه ولا قضاه الورثة من مال أنفسهم. وإذا لم يكن الدّين محيطاً بالتّركة فملك الميّت وحقّ الغرماء ثابت في قدر الدّين من التّركة على الشّيوع، فيمنع جواز القسمة. وذهب بعض الحنفيّة إلى: جواز القسمة استحساناً، إذا كان الدّين غير مستغرق للتّركة، لأنّه قلّما تخلو تركة من دين يسير. ولا تنقض القسمة أيضاً إذا أبرأ الدّائن الميّت من الدّين، أو ضمن الدّين بعض الورثة برضى الدّائن نفسه، أو كان في التّركة من غير المقسوم ما يكفي لأداء الدّين. وقد جاء في مجلّة الأحكام العدليّة ما نصّه: إذا ظهر دين على الميّت بعد تقسيم التّركة تفسخ القسمة، إلاّ إذا أدّى الورثة الدّين، أو أبرأهم الدّائنون منه، أو ترك الميّت مالاً سوى المقسوم يفي بالدّين، فعند ذلك لا تفسخ القسمة. وذهب الشّافعيّة إلى: أنّ ملك الورثة للتّركة يبدأ من حين موت المورّث، سواء أحاط الدّين بالتّركة أم لا. وقسمة التّركة ما هي إلاّ تمييز وإفراز لحقوق كلّ من الورثة، ومن ثمّ فلا وجه لنقض القسمة عندهم. وإن قيل: إنّها بيع ففي نقضها وجهان. وعند الحنابلة: لا تبطل القسمة بظهور دين على الميّت، لأنّ تعلّق الدّين بالتّركة لا يمنع صحّة التّصرّف فيها،لأنّه تعلّق بها بغير رضا الورثة. وللتّفصيل ينظر مصطلح: (قسمة). 34 - المقصود بنقض القسمة: إبطالها بعد تمامها، وتنقض قسمة التّركة في الحالات التّالية: - أ - الإقالة أو التّراضي على فسخ القسمة. ب - ظهور دين على الميّت وقد تقدّم. ج - ظهور وارث أو موصًى له في قسمة التّراضي، لأنّ الوارث والموصى له شريكان للورثة في التّركة. د - ظهور غبن فاحش لحق ببعض الورثة، وهو الّذي لا يدخل تحت تقويم المقوّمين، كأن قوّم المال بألف، وهو يساوي خمسمائة. وتنقض هنا قسمة القاضي، لأنّ تصرّف القاضي مقيّد بالعدل ولم يوجد. وتنقض أيضاً قسمة التّراضي، لأنّ شرط جوازها المعادلة ولم توجد، فجاز نقضها. هـ - وقوع غلط في المال المقسوم. وفي جميع هذه الصّورة تفصيل وخلاف ينظر في مصطلح: (قسمة).
35 - تقدّم خلاف الفقهاء في نفاذ أو عدم نفاذ قسمة التّركة إذا كانت مستغرقةً بالدّين كلّاً أو بعضاً. وإذا تصرّف الورثة في التّركة المدينة بالبيع أو الهبة أو بغير ذلك من التّصرّفات الّتي من شأنها أن تنقل الملكيّة أو ترتّب عليها حقوقاً عينيّةً كالرّهن، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على الوجه التّالي: ذهب الحنفيّة والمالكيّة، والحنابلة في إحدى الرّوايتين - وهم الّذين قالوا بمنع ملكيّة الوارث إلاّ بعد سداد الدّين - إلى: أنّه لا يجوز أيّ تصرّف من الورثة في التّركة إلاّ في الأحوال التّالية: أ - أن تبرأ ذمّة الميّت من الدّين قبل تصرّف الورثة، إمّا بالأداء أو الكفالة. ب - أن يرضى الدّائنون بقيام الورثة ببيع التّركة لسداد ديونهم، لأنّ منع تصرّف الورثة بالتّركة كان ضماناً لحقّ الدّائنين المتعلّق بالتّركة. ج - أن يأذن القاضي بالتّصرّف، وذلك لأنّ القاضي بما له من الولاية العامّة يملك الإذن للورثة بالبيع لجميع التّركة أو بعضها. وأمّا الشّافعيّة والحنفيّة في الرّواية الأخرى - وهم الّذين ذهبوا إلى أنّ ملك الوارث يبدأ من وقت وفاة المورّث، سواء كانت التّركة مدينةً أم لا - فإنّهم ذهبوا إلى أنّ تصرّف الوارث بالبيع أو الهبة مع استغراق التّركة بالدّين لا ينفذ مراعاةً لحقّ الميّت، أذن الدّائن أم لا، إلاّ إذا كان التّصرّف لقضاء الدّين فإنّه ينفذ. وفي المسألة تفصيل يرجع فيه إلى الهبة، وإلى بيع منهيّ عنه، ومصطلح: (دين).
36 - تقدّم الكلام حول تصرّف الوارثين البالغين في التّركة قسمةً أو بيعاً، أمّا إذا كان الورثة أو بعضهم قصّراً: فإنّ التّصرّف فيها يكون راجعاً للوصيّ إن كان، أو للقاضي إن لم يكن وصيّ، وذلك لضمان الحقوق المتعلّقة بالتّركة من جهة، ولحفظ أموال الورثة الضّعفاء كيلا يظلموا من غيرهم. ولتفصيل هذه الأحكام ينظر (الوصيّة) ومصطلح: (إيصاء).
37 - اختلف الفقهاء في التّركة الّتي لا وارث لها، أو لها وارث لا يرثها جميعها، فمن قال من الفقهاء بالرّدّ قال: لا تئول التّركة إلى بيت المال ما دام لها وارث. ومن لا يرى الرّدّ من الفقهاء قال: إنّ بيت المال يرث جميع التّركة، أو ما بقي بعد أصحاب الفروض. وإذا آلت التّركة إلى بيت المال كانت على سبيل الفيء لا الإرث عند الحنفيّة والحنابلة. وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ حقّ بيت المال هنا هو على سبيل الميراث، أي على سبيل العصوبة. وللتّفصيل ينظر مصطلح: (إرث، وبيت المال).
1 - للتّرميم في اللّغة معان. منها: الإصلاح. يقال: رمَّمت الحائط وغيره ترميماً: أصلحته. ورمَّمت الشّيء أرُمّه وأرِمّه رمّاً ومَرَمّةً: إذا أصلحته. ويقال: قد رَمّ شأنُه. واسترمّ الحائط: أي حان له أن يُرَمّ، وذلك إذا بعد عهده بالتّطيين ونحوه. والرِّم: إصلاح الشّيء الّذي فسد بعضه من نحو حبل يبلى فيرمّه، أو دار ترمّ مرمّةً. ولا يخرج في معناه الاصطلاحيّ عن هذا. والتّرميم قد يكون بقصد التّقوية، إذا كان الشّيء معرّضاً للتّلف، وقد يكون بقصد التّحسين.
2 - إذا احتاجت عين الوقف إلى ترميم، فإنّه يبدأ به من غلّته قبل الصّرف إلى المستحقّين، لأنّ قصد الواقف صرف الغلّة مؤبّداً، ولا تبقى دائمةً إلاّ بعمارته، وما بقي بعد العمارة يصرف للمستحقّين، هذا ما عليه الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة. وفي هذا يقول الحنفيّة: لو شرط الواقف تقديم العمارة، ثمّ الفاضل للفقراء أو للمستحقّين، لزم النّاظر إمساك قدر ما تحتاجه العمارة كلّ سنة، وإن لم يحتجه وقت الإمساك، لجواز أن يحدث في الوقف بعد التّوزيع حدث يحتاج إلى ترميم ولا يجد غلّةً يرمّم بها، بخلاف ما إذا لم يشترطه. والفرق بين الشّرط وعدمه: أنّه مع السّكوت تقدّم العمارة عند الحاجة إليها، ولا يدّخر لها عند عدم الحاجة إليها، ومع الاشتراط تقدّم عند الحاجة، ويدّخر لها عند عدمها، ثمّ يفرّق الباقي، لأنّ الواقف إنّما جعل الفاضل عنها للفقراء. ولو كان الموقوف داراً، فعمارتها على من له السّكنى، أي على من يستحقّها من ماله لا من الغلّة، إذ الغرم بالغنم. ومفاده: أنّه لو كان بعض المستحقّين للسّكنى غير ساكن فيها يلزمه التّعمير مع السّاكنين، لأنّ تركه لحقّه لا يسقط حقّ الوقف، فيعمّر معهم، وإلاّ تؤجّر حصّته. ولو أبى من له السّكنى، أو عجز لفقره، آجرها الحاكم منه أو من غيره، وعمّرها بأجرتها كعمارة الوقف، ثمّ يردّها بعد التّعمير إلى من له السّكنى رعايةً للحقّين. 3 - فإذا امتنع عن العمارة من ماله يؤجّرها المتولّي ويعمّرها من غلّتها، لأنّها موقوفة للغلّة. ولو كان هو المتولّي وامتنع من عمارتها ينصب غيره ليعمّرها، أو يعمّرها الحاكم. ولو احتاج الخان الموقوف إلى المرمّة آجر بيتاً أو بيتين منه وأنفق عليه، أو يؤذن للنّاس بالنّزول فيه سنةً، ويؤجّر سنةً أخرى، ويرمّ من أجرته. ويقول المالكيّة: إنّ إصلاح الوقف من غلّته. فإن شرط على المستحقّ إصلاحه يلغى الشّرط، والوقف صحيح، ويصلح من غلّته. فإن أصلح من شرط عليه الإصلاح رجع بما أنفق لا بقيمته منقوضاً. فلو شرط الواقف أن يبدأ من غلّته بمنافع أهله، ويترك إصلاح ما تهدّم منه، أو يترك الإنفاق عليه إذا كان حيواناً بطل شرطه، وتجب البداءة بمرمّته والنّفقة عليه من غلّته لبقاء عينه. ولمّا كانت رقبة الوقف عند المالكيّة للواقف والغلّة للموقوف عليه، يترتّب على هذا أنّه إذا خرب الوقف فللواقف إن كان حيّاً - ولوارثه إن مات - منع من يريد إصلاحه إذا خرب أو احتاج للإصلاح، لأنّه ليس لأحد أن يتصرّف في ملك غيره إلاّ بإذنه، ولأنّ إصلاح الغير مظنّة لتغيير معالمه، وهذا إذا أصلحه الواقف أو ورثته، وإلاّ فليس لهم المنع، بل الأولى لهم تمكين من أراد بناءه إذا خرب، لأنّه من التّعاون على الخير. وهذا في غير المساجد، وأمّا هي فقد ارتفع ملكه عنها قطعاً. ويقول الشّافعيّة: لو خربت الدّار الموقوفة، ولم يعمّرها الموقوف عليه، فإن كان للوقف مال كانت عمارته في مال الوقف، وإن لم يكن له مال أوجر وعمّر من أجرته. فإذا تعطّلت منافع الوقف وكان حيواناً كخيل الجهاد، فالنّفقة من بيت المال. أمّا عمارة الدّار الموقوفة فلا تجب على أحد كالملك المطلق بخلاف الحيوان فإنّ نفقته تجب لصيانة روحه. وريع الأعيان الموقوفة على المسجد إذا انهدم وتوقّع عوده حفظ له، وإلاّ فإن أمكن صرفه إلى مسجد آخر صرف إليه، وإلاّ فمنقطع الآخر فيصرف لأقرب النّاس إلى الواقف، فإن لم يكونوا صرف إلى الفقراء والمساكين أو مصالح المسلمين. 4- أمّا غير المنهدم فما فضل من غلّة الموقوف على مصالحه يشترى بها عقار ويوقف عليه، بخلاف الموقوف على عمارته يجب ادّخاره لأجلها، وإلاّ لم يعد منه شيء لأجلها، لأنّه يعرّض للضّياع أو لظالم يأخذ. 5- وأمّا الحنابلة فيرجع عندهم إلى شرط الواقف في الإنفاق على الوقف وفي سائر أحواله، لأنّه ثبت بوقفه، فوجب أن يتبع فيه شرطه. فإن عيّن الواقف الإنفاق عليه من غلّته أو من غيرها عمل به رجوعاً إلى شرطه، وإن لم يعيّنه - وكان الموقوف ذا روح كالخيل - فإنّه ينفق عليه من غلّته، لأنّ الوقف يقتضي تحبيس الأصل وتسبيل منفعته، ولا يحصل ذلك إلاّ بالإنفاق عليه فكان ذلك من ضرورته. فإن لم يكن للموقوف غلّة لضعف به ونحوه فنفقته على الموقوف عليه المعيّن، لأنّ الوقف عندهم يخرج من ملك الواقف إلى ملك الموقوف عليه إن كان آدميّاً معيّناً، مع منعه من التّصرّف فيه. فإن تعذّر الإنفاق من الموقوف عليه لعجزه أو غيبته ونحوهما بيع الوقف، وصرف ثمنه في عين أخرى تكون وقفاً لمحلّ الضّرورة. ولو احتاج خان مسبّل إلى مرمّة، أو احتاجت دار موقوفة لسكنى الحاجّ أو الغزاة أو أبناء السّبيل ونحوهم إلى مرمّة، يؤجّر منه بقدر ما يحتاج إليه في مرمّته. 6- وإن كان الوقف على غير معيّن كالمساكين ونحوهم كالفقهاء فنفقته في بيت المال، لانتفاء المالك المعيّن فيه. فإن تعذّر الإنفاق عليه من بيت المال بيع وصرف ثمنه في عين أخرى تكون وقفاً. وإن كان الوقف ممّا لا روح فيه كالعقار ونحوه من سلاح ومتاع وكتب، لم تجب عمارته على أحد إلاّ بشرط الواقف. فإن شرط عمارته عمل بشرطه، سواء شرط البداءة بالعمارة أو تأخيرها،فيعمل بما شرط. لكن إن شرط تقديم الجهة عمل به ما لم يؤدّ إلى التّعطيل، فإذا أدّى إليه قدّمت العمارة حفظاً لأصل الوقف. فإن لم يذكر البداءة بالعمارة أو تأخيرها، فتقدّم على أرباب الوظائف، ما لم يفض ذلك إلى تعطيل مصالحه، فيجمع بينهما حسب الإمكان. ويصحّ بيع بعضه لإصلاح باقيه، لأنّه إذا جاز بيع الكلّ عند الحاجة فبيع البعض مع بقاء البعض أولى، إن اتّحد الواقف. وتفصيل ذلك يرجع إليه في مصطلح: (وقف).
7 - إذا احتاجت الدّار المستأجرة للتّرميم. فإنّ عمارتها وإصلاح ما تلف منها وكلّ ما يخلّ بالسّكنى على المؤجّر عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة. ويقول الحنفيّة: إن أبى صاحبها أن يفعل كان للمستأجر أن يخرج منها، إلاّ أن يكون المستأجر استأجرها وهي كذلك وقد رآها لرضاه بالعيب، وأنّه لا يجبر المؤجّر على إصلاح بئر الماء والبالوعة والمخرج إن أبى إصلاح ذلك، لأنّه لا يجبر على إصلاح ملكه، فإن فعله المستأجر فهو متبرّع، وله أن يخرج إن أبى المؤجّر. وعلى المستأجر إصلاح ما تلف من العين بسبب استعماله. ويقول الشّافعيّة: إن بادر المؤجّر إلى إصلاح ما تلف فلا خيار للمكتري، وإلاّ فله الخيار لتضرّره بنقص المنفعة. والحنابلة كالشّافعيّة في هذا، إلاّ أنّهم قالوا: لو شرط المؤجّر على المكتري النّفقة الواجبة لعمارة المأجور لم يصحّ، لأنّه يؤدّي إلى جهالة الإجارة، فلو عمّر المستأجر بهذا الشّرط أو عمّر بإذن المؤجّر رجع عليه. وإن أنفق المستأجر من غير إذنه لم يرجع بشيء، لأنّه متبرّع، لكن له أخذ أعيان آلاته. وأجاز المالكيّة شرط المرمّة للدّار وتطيينها إن احتاجت على المكتري، بشرط أن يكون من كراء وجب على المكتري، إمّا في مقابلة سكنى مضت، أو باشتراط تعجيل الكراء، أو يجري العرف بتعجيله، لا إن لم يجب فلا يجوز. أو وقع العقد على أنّ ما تحتاج إليه الدّار من المرمّة والتّطيين من عند المكتري، فلا يجوز للجهالة.
8 - إذا استأجر شخص ما داراً مشتركةً بين اثنين مثلاً من صاحبيها، ثمّ احتاجت إلى مرمّة، فاستأذن فيها واحداً منهما فحسب، فأذن له دون رجوع إلى شريكه فليس للمستأجر حقّ الرّجوع على الشّريك الآخر بما أنفقه في المرمّة. فإن كان للآذن حقّ الرّجوع على شريكه كان للمستأجر الرّجوع على آذنه بالنّفقة كلّاً، ثمّ يرجع هذا على شريكه بحصّته من النّفقة. وإن لم يكن له حقّ الرّجوع فإذنه لغو في حصّة شريكه، وليس للمستأجر إلاّ الرّجوع على الآذن وحده بنسبة حصّته. 9 - كلّ ما يحتاج إليه لبقاء الرّهن ومصلحته فهو على الرّاهن، لأنّه باق على ملكه، وذلك مؤنة الملك. وكلّ ما كان لحفظه فعلى المرتهن، لأنّ حبسه له، فلو شرط منه شيء على الرّاهن لا يلزمه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الظّهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدّرّ يشرب بنفقته، وعلى الّذي يركب ويشرب النّفقة» والّذي يركب هو الرّاهن، فوجب أن تكون النّفقة عليه، ولأنّ الرّقبة والمنفعة على ملكه، فكانت النّفقة عليه. ويقول الحنابلة: إنّ مؤنة الرّهن على راهنه، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُغْلَقُ الرَّهنُ من صاحبه الّذي رهنه، له غُنْمه وعليه غُرْمه» ولأنّه ملك للرّاهن فكان عليه نفقته وما يحتاج إليه. فإن امتنع الرّاهن من بذل ما وجب عليه أجبره الحاكم عليه، فإن لم يفعل أخذ الحاكم من ماله وفعله، فإن تعذّر أَخْذُ ذلك من الرّهنِ بيع منه فيما يجب على الرّاهن فعله بقدر الحاجة، لأنّ حفظ البعض أولى من إضاعة الكلّ، فإن خيف استغراق البيع للرّهن في الإنفاق عليه بيع كلّه وجعل ثمنه رهناً مكانه لأنّه أحظّ لهما. وإن أنفق المرتهن على الرّهن بلا إذن الرّاهن، مع قدرته على استئذانه، فمتبرّع حكماً لتصدّقه به، فلا يرجع بعوضه ولو نوى الرّجوع، كالصّدقة على مسكين، ولتفريطه بعدم الاستئذان. وإن تعذّر استئذانه وأنفق بنيّة الرّجوع رجع ولو لم يستأذن الحاكم، لاحتياجه لحراسة حقّه. وتفصيل ذلك ينظر في (رهن).
انظر: يوم التّروية.
التّعريف: 1 - التِّرْياق بكسر فسكون، وجُوِّز ضمّه وفتحه، ولكنّ المشهور الأوّل وهو معرّب، ويقال بالدّال والطّاء أيضاً: دواء يستعمل لدفع السّمّ وهو أنواع.
2 - قال الحنابلة: التّرياق دواء يتعالج به من السّمّ، ويجعل فيه من لحوم الحيّات، ولذلك لم يبيحوا أكله ولا شربه، لأنّ لحم الحيّة حرام، ولا يجوز التّداوي بمحرّم، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّ اللّه لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم» وعن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما قال: «سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: ما أبالي ما أتيت إنْ أنا شربت ترياقاً، أو تعلّقت بتميمة، أو قلت الشّعر من قبل نفسي» والمعنى: أنّي إن فعلت هذه الأشياء كنت ممّن لا يبالي بما فعله من الأفعال، ولا ينزجر عمّا لا يجوز فعله شرعاً. وقال الخطّابيّ: ليس شرب التّرياق مكروهاً من أجل التّداوي. وقد أباح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم التّداوي والعلاج في عدّة أحاديث، ولكن من أجل ما يقع فيه من لحوم الأفاعي، وهي محرّمة. والتّرياق أنواع، فإذا لم يكن فيه من لحوم الأفاعي فلا بأس بتناوله. وممّا ورد من أحاديث في التّداوي والعلاج ما روي «عن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال: كنت عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب فقالوا: يا رسول اللّه أنتداوى ؟ فقال: نعم يا عباد اللّه تداووا فإنّ اللّه عزّ وجلّ لم يضع داءً إلاّ وضع له شفاءً، غير داء واحد قالوا: ما هو ؟ قال: الهرم» وفي لفظ «إنّ اللّه لم ينزل داءً إلاّ أنزل له شفاءً، علمه من علمه، وجهله من جهله». وفي مرقاة المفاتيح: إذا لم يكن في التّرياق محرّم شرعاً من لحوم الأفاعي والخمر ونحوه، فإنّه لا يكون حراماً. وبتحريم لحوم الحيّات يقول الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة. وللحنفيّة فيما إذا جعل لحم الحيّات في التّرياق للتّداوي - أسوةً بالتّداوي بالمحرّم - رأيان: ظاهر المذهب: المنع. وقيل: يرخّص إذا علم فيه الشّفاء ولم يعلم دواء آخر، وعليه الفتوى. فإنّ اللّه تعالى قد أذن بالتّداوي، وجعل لكلّ داء دواءً، فإذا كان في ذلك الدّواء ما هو محرّم وعلم فيه الشّفاء فقد زالت حرمة استعماله، وحلّ تناوله للتّداوي به. وحديث: «إنّ اللّه لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم» معناه: نفي الحرمة عند العلم بالشّفاء. دلّ عليه جواز إساغة اللّقمة بالخمر، وجواز شربها لإزالة العطش، ما لم يوجد ما يقوم مقامها. وللشّافعيّة في التّداوي به أسوةً بالمحرّم المخالط للدّواء المنع عند البعض، والجواز عند البعض الآخر متى علم فيه الشّفاء ولم يوجد غيره. أمّا المالكيّة فقد أباحوا أكل الحيّة متى ذكّيت في موضع ذكاتها، وأمن سمّها، واحتيج لأكلها بسمّها لمن ينفعه ذلك لمرضه، فإنّه يجوز أكلها. ومفهوم هذا أنّ لحمها متى دخل في التّرياق وخالطه فإنّه يجوز التّداوي به. وتفصيل ذلك يرجع إليه في مصطلح: (تداوي).
|